المقالات

نبذ الفوضوية

نبذ الفوضوية

إنَّ ما يحدث هذه الأيام من تناقضات عجيبة على مستوى الأمة بكل شرائحها لأمر يحتاج إلى وقفة تأمل وتدبّر للتوجيه والإصلاح وسد الخلل حتى لا يتسع الخرق على الراقع ، وتستفحل الأمور وتستحيل إلى أمراض مزمنة يصعب معها العلاج.

إنَّ حياة المسلمين اليوم مليئة بالتناقضات والمهازل المضحكة بسبب ضعف الوازع الديني ، وعدم تذكر الموت وما بعده ، وعدم مجالسة الصالحين وأهل العلم ، والتحسين والتقبيح حسب الهوى والشهوة ، ومجاراة الواقع العام ، والاغترار بالكثرة ، وقلة الرصيد العلمي .

لقد أصبحت الفوضى تضرب بأطنابها في كثير من المجالات الحياتية ، وحسبنا أن نقف هنا ، عند أهم مظاهر الفوضى في حياتنا :

1-الجرأة على الفتوى :يلاحظ على كثير من الناس الجرأة على إصدار الفتاوى الشرعية مع أنهم يجهلون كثيراً من العلوم الشرعية ، بل لم يعرفوا بالعلم ، و الطامة الكبرى أنهم يخطئون العلماء الراسخين الذين شابت لحاهم في العلم والفتوى وربما لمزوهم بأقبح الشتائم والأوصاف . وفي المقابل يمسكون ألسنتهم عن الخوض في الأمور الطبية والمعمارية ، وكأنهم ما قرأوا قوله تعالى : ( قل إنما حرَّم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) الأعراف :33 و قوله تعالى: ( ولا تقف ما ليس لك به علم ) الإسراء:36. ألا فقه هؤلاء قبل أن يسودوا:

يقولون هذا عندنا غير جائز              ومن أنتم حتى يكون لكم عند

2-ظاهرة التعلق بالأشخاص :يؤكد الكثير من المسلمين أنهم تخلو عن نزعة التعلق بالأشخاص ، لكن المتأمل في الواقع يجد أن هذا التأكيد وذلك التخلي نظرياً على الأوراق والمقالات ، والحقيقة أنهم يمارسونها في داخلهم ، حتى صار مرضاً عضالاً . نعم تخلو عن الشيخ بالمعنى الصوفي ، ولكن تعلقوا  بالقائد والحزب والجماعة ولافتات وأسماء حلت محل الشيخ في العصمة يحنون إليها كما يحن الفصيل إلى أمه ، فتجدهم ينتظرون الكلمة من فمه ، فكل ما ينطق به صواب ، ويتناقلون كلامه وخطبه أينما ذهبوا وحيثما رحلوا .

لقد جنت هذه التربية العقيمة على الشباب كوارث وأخطاء حتى أصبحوا لغبائهم لا يفرقون بين العالم ومن يدّعي أنه عالم !

    وتفرقوا شيعاً فكل جماعة              فيها أمير المؤمنين ومنبر

3-التعدي على العلماء الربانيين :تعج الساحة الإسلامية اليوم بالخلط في الأسماء والمسميات ولاسيما عند العامة والشباب المندفع فتجدهم لا ينزلون العالم منزلته ويساوونه بالواعظ والخطيب والمفكر، ولعل السبب يعود للانفتاح المعرفي و القنوات الفضائية ، فهم يطلبون من المفكر أن يكون فقيهاً ، والفقيه أن يكون خطيباً ، ومن الواعظ أن يكون عالماً، وقد يُسأل الواعظ أو الخطيب عن أدق الأمور في العقيدة أو الفقه فيجيب بإجابات غير صحيحة أو غير دقيقة .

وبالجملة : فالناس يريدون أمةً في رجل ، وينسون أن المواهب والقدرات موزعة بين الناس ، وقد لا تجتمع عدة مواهب إلا في آحاد من الناس ، فقد يفتح الله سبحانه وتعالى على البعض بالخطابة المؤثرة ، ويتجه آخرون نحو الكتابة والفكر . وخلاصة القول : يجب أن يعلم المسلمون أن هناك علماء وطلاب علم ومتحدثين وخطباء وكتاباً ، وكل يستفاد منه حسب طاقته واختصاصه ، فليعط كل ذي حق حقه .

 يُقْضى على المرء في أيام محنته    حتى يرى حسناً ما ليس بالحسن

4-تخلي الآباء عن تربية أولادهم:بعض الآباء يقوم بتوفير ما يحتاجه الأولاد من مأكل وملبس ومشرب لكنهم لا يلقون بالاً ولا اهتماماً بتربية أبنائهم ورعايتهم، فلا يأمرهم بمعروف ولا ينهاهم عن منكر، ولا يتابع سلوكهم وتصرفاتهم ماذا يعملون؟ ومن يصادقون ؟ بل وصل الأمر بالبعض منهم أنه لا يهتم بولده إلا إذا كان مريضاّ فقط.

لقد تخلت كثير من البيوت عن دورها التربوي كمحاضن للتربية الرشيدة فكانت النتائج وجود أولاد يفتقدون الحنان ودفء المشاعر والعلاقات الإنسانية ، فبحثوا عنها عند من يصطادهم في الماء العكر خلقياً وفكرياً .

ليس اليتيم من انتهى أبواه           من هم الحياة وخلفاه ذليلا

فأصاب بالدنيا الحكيمة منهما   وبحسن تربية الزمان بديلا

أن اليتيم الذي تلقى له ً                     أماً  تخلت  أو أباً  مشغولا

5-ثقافة التجهيل :إن مما تعانيه الأمة اليوم من بعد عن المنهج الصحيح في العلم والعمل والدعوة إلى التعمير والسير في ركب الحضارة والتقدم ما تعج به كثير من القنوات الفضائية ، ووسائل الإعلام بأنواعها ، وكثير من الصروح العلمية والأدبية والثقافية من سير بالشباب نحو التبعية للغير وثقافة العدم والسريالية واللامعقول التي لا تخرَّج إلا جيلاً منسلخاً عن ذاته وهويته يجري خلف السراب ، ويلهث وراء اللاشيء ! لا يكاد يلوي على شيء !

و أقلقني التآمر في   زمانٍ              يصيبك من كوارثه الصداع

تريد الأمن يا قلبي وتدعو                       و لكن لا تجاب و لا تطاع

وكيف تعيش في أمنٍ إذا ما                     تحالفت الزواحف والسباع

وصار الباطل المشئوم حقاً                       وبيع الحرف وامتهن اليراع

6-تدني مستوى طلابنا العلمي :يشكو الغيورون من الآباء والمعلمين والمصلحين من التدني الخطير في مستوى الطلاب العلمي سواء أكان في التعليم الأساسي أو الثانوي أو الجامعي ،وظهور ظواهر خطيرة في صروحنا التعليمية كالاعتماد على الغش فضلاً عن كثير من السلوكيات غير الصحيحة .

وسبب ذلك يعود إلى جميع أقطاب العملية التعليمية من أسرة وإدارة تربوية أو مدرسية ومعلمين فضلاً عن طلاب اليوم الذين أصبحوا يزهدون في التعليم وينفرون منه إلى كثير من الملهيات التي يعج بها المجتمع من رياضة وقنوات فضائية ومواقع هابطة وغيرها ... إن هذه الفوضى التي يشهدها أبناؤنا تحتاج إلى وقفة مسئولة وتربية رشيدة وإلا ستتعاقب أجيال تحمل شهادات جامعية لكنها لا تحمل علماً ولا قدرة على البناء والتطور حتى كأنَّ الشاعر يعنينا بقوله :

أروني بينكم رجلاً                 ركيناً واضحَ الحَسَبِ

أروني نصفَ مُخْترعٍ                  أروني  رُبْعَ     مُحْتَسبِ

أروني  نادياً   حَفِلاً                  بأهل الفضل و الأدبِ

وماذا في مدارسكم                        من التعليم والكتبِ

وماذا في مساجدكم                      من التبيان و الخُطبِ

وماذا في صحائفكم                     سوى التمويه والكذبِ

حصائدُ أَلْسُنٍ جَرَّتْ                  إلى الويلاتِ و الحربِ

فَهُبُّوا من مراقدكم                         فإنَّ الوقتَ  من ذَهَبِ

ولو جلسنا نعدد مظاهر الفوضى العارمة وصورها في حياتنا لطال بنا المقام ، فالموظف الذي يتأخر في الوصول إلى مكتبه ، ويؤخر معاملات الناس ، و يأخذ الرشوة ، والرجل الذي يرمي بالقمامة والقاذورات في غير مكانها المخصص فيؤذي الناس في طريقهم وبيوتهم، والشاب الذي يشوه جدران المنازل والمساجد ودورات المياه والأماكن العامة بكتاباته السقيمة وسلوكه غير الحضاري ، والتاجر الذي يغش الناس في بيعه وشرائه ويحتكر السلع ويزيد الأسعار ، والمرأة التي تخرج سافرة ومتعطرة وتختلط بالناس في الأسواق ، وتعرض نفسها للفتن ، والشخص الذي يسعى بين الناس بالنميمة والكذب والافتراء فيكون سبباً لزرع الأحقاد والضغائن بين الناس ... كل أولئك لم يتخلصوا بعد من الفوضى العارمة التي تطحن المجتمع بكلاكلها .

أيها القارئ الكريم أن هذه الأسطر ليست من باب هلك الناس ، ولكنها دعوة صادقة لإصلاح أحوالنا ، وتغيير أوضاعنا لننبذ الفوضوية بحسن نية ، ولنعلم ( إنَّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) .

                             مجلة الدعوية :9/5/1431هـ - 23/4/2010م

 

 

 

 

مواعيد الدورات والمحاضرات

إصداراتنـــــــــــــــا

الشراكات

القائمة البريدية

احصل على أخبارنا عبر بريدك الإلكتروني

عدد الزوار:

عدد المتصفحين حالياً: 1